التيسير الكمي Quantitative Easing – المفهوم والايجابيات والسلبيات
سياسة التيسير الكمي وتأثيرها على الاقتصاد
مقدمة حول سياسة التيسير الكمي
تُعتبر البنوك المركزية هي الأداة الرئيسية لتنظيم الحالة الاقتصادية وصولاً إلى حالة التوازن الاقتصادي، أما الأهداف الرئيسية للبنوك المركزية فهي زيادة فرص العمل، والمحافظة على استقرار الأسعار، ومراقبة أسعار الفائدة، وتستخدم لهذا الغرض مجموعة من الادوات، منها التيسير الكمي الذي سنتناوله بالتفصيل في هذه المقالة.
وفق منطق الدورة الاقتصادية لا يمكن لأي دولة أن تشهد حالة نمو اقتصادي مستمرة، فكل ازدهار يليه ركود، وكل ركود يليه ازدهار، في الظروف المثالية التي تشهد فيها البلاد حالة انتعاش اقتصادي يكون تدخل البنوك المركزية قليل مقارنة بالأوقات التي تشهد فيها البلاد أزمات وحالة ركود اقتصادي، والتي تتعاظم فيها مهام ومسؤوليات تلك البنوك.
تعتبر الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2008 من أهم الأزمات التي عصفت بالإقتصاد العالمي، وأحدثت حالة ركود أصابت معظم دول العالم، وهنا أصبح تدخل البنوك المركزية واجباً لمواجهة الآثار السلبية لتلك الأزمة. في ذلك الوقت استخدم الاحتياطي الفيدرالي برنامج التيسير الكمي لأول مرة كسياسة نقدية جديدة لمواجهة الأزمة.
ما هو التيسير الكمي؟
هو استراتيجية تستخدمها البنوك المركزية بهدف زيادة عرض الأموال في السوق المحلي وذلك في أوقات الأزمات والركود الاقتصادي. يكون تدخل البنوك المركزية بإصدار وطباعة أموال جديدة، هذه الأموال لا يتم تقويمها بالذهب، بمعنى أنه لا يتم الإحتفاظ بنفس مقدارها ذهب في البنك المركزي، وبذلك تكون قيمتها ثمن الورق والحبر الذي طُبعت به.
بعد طباعة وإصدار هذه الأموال الجديدة تستخدمها الدولة لشراء سندات الدين الحكومية وأصول أخرى من البنوك، وبهذا الشكل يكون البنك المركزي قد ضخ أموالاً جديدة في البنوك. تقوم البنوك بعد ذلك بإقراض جزء من هذه الأموال للأفراد والمؤسسات، وينتج عن ذلك زيادة عرض الأموال في السوق المحلي وتشجيع الإنفاق والإستهلاك، وهذا يؤدي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والتغلب على حالة الركود شيئاً فشيئاً.
تكون برامج التيسير الكمي أكثر فائدة عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة وقريبة من الصفر، فهذا سيشجع الأفراد والمؤسسات بالفعل على الإقتراض.
زيادة عرض الأموال في السوق وسهولة الحصول عليها بفوائد قليلة يشجع بدء مشاريع جديدة، الأمر الذي يعني خلق فرص عمل جديدة وتقليل معدلات البطالة، وهذا ما حصل بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية حين انخفضت معدلات البطالة من 9.9 في العام 2009 إلى 4.4 في العام 2017.
التيسير الكمي هو الملاذ الأخير لصناع السياسة النقدية اليائسين عندما تكون أسعار الفائدة قريبة من الصفر، لكن ومع ذلك الاقتصاد لا يزال متعثر.
تأثير برنامج التيسير الكمي: هل يكون دائماً فعال؟
- من المعروف أن زيادة عرض النقود يشجع على الإستهلاك وزيادة الطلب على السلع والخدمات، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار والذي تكون نتيجته زيادة معدلات التضخم. في هذه الحالة قد تجد البنوك المركزية أنها مضطرة لرفع معدلات الفائدة من أجل تقليل نسبة التضخم، لكن رفع سعر الفائدة يعني تقليل معدلات الإقراض وتقليل عرض النقود في السوق، وهذا قد يعني عودة الأمور إلى مربعها الأول وكأننا نسير في حلقة مفرغة.
في مثل الحالة السابقة عندما تتدخل البنوك المركزية لتخفيض نسبة التضخم تقوم برفع سعر الفائدة بنسبة قليلة جداً بحيث لا تؤثر على دافعية الأفراد والمؤسسات في طلب القروض، فيكون رفع سعر الفائدة سبب لتقليل نسبة التضخم، كما أنها لا يمكن أن تؤثر بصورة كبيرة على معدلات الإقتراض.
- صحيح أن البنوك المركزية تزيد عرض النقود من خلال شراء الأصول وسندات الدين من البنوك، لكنها لا تستطيع إجبار البنوك على الإقراض كما لا تستطيع إجبار الأشخاص والمؤسسات على طلب القروض والإستثمار، وفي مثل هذه الحالة لا يكون التيسير الكمي أداة فعالة.
هذا ما حدث بالفعل في العام 2008، حيث بدأ الاحتياطي الفيدرالي برنامج تيسير كمي وزاد عرض النقود بمقدار 4000 مليار دولار أمريكي استخدمها في شراء الأصول والسندات الحكومية من البنوك، إلا أن البنوك احتفظت بأكثر من 2700 مليار كاحتياطيات لديها ولم يؤدي برنامج التيسير الكمي في ذلك الوقت بالشكل المطلوب منه.
مخاطر التيسير الكمي
من عيوب برامج التيسير الكمي أنها تعمل على تخفيض قيمة العملة بسبب زيادة عرض النقود وانخفاض معدلات الفائدة، وهذا بدوره يعتبر مفيد للقطاع الصناعي خصوصاً في جانب التصدير، فتزداد الصادرات لأن قيمتها تصبح أرخص في السوق العالمية.
لكن في المقابل عند انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات العالمية تصبح تكلفة الواردات أعلى (يتم دفع أموال أكثر مقابلها)، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بالنسبة للمستهلك.
في المحصلة، يعتبر التيسير الكمي واحد من أهم أدوات البنوك المركزية وأكثرها استخداماً في أوقات الأزمات، إلا أن هذه الأداة لها قد لا تعمل كما هو متوقع منها تماماً، فالأسواق العالمية تتداخل فيها الكثير من المتغيرات التي يصعب السيطرة عليها بالكامل.
حالات استخدمت فيها سياسة التيسير الكمي في الاقتصاد
- كان بنك اليابان أول من استخدم برنامج التيسير الكمي في العام 2000 بعد الأزمة الآسيوية التي حدثت في العام 1997، إلا أن هذه السياسة لم تنجح، بل على العكس من ذلك انخفض الناتج المحلي الياباني من 5.45 ترليون دولار في العام 1995 إلى 4.52 ترليون دولار في العام 2007.
- استخدم البنك الوطني السويسري برنامج التيسير الكمي بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وقد كان استخدامه للتيسير الكمي هو الأكبر عالمياً بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هذه السياسة لم تحقق النتائج المرغوبة، فانخفض الناتج المحلي الإجمالي ولم يتمكن البنك من تحقيق أهداف التضخم.
- في العام 2016 أعلن بنك إنجلترا بدء برنامج للتيسير الكمي بمقدار 70 مليار جنيه إسترليني من أجل تخفيف المخاوف بشأن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. في حالة بريطانيا أيضاً لم يؤدي برنامج التيسير الكمي بالشكل المطلوب منه حيث أن معدلات النمو انخفضت مقارنة بالأعوام السابقة.
استخدمت الولايات المتحدة أيضاً برنامج التيسير الكمي كما ذكرنا سابقاً، واستخدمه الإتحاد الأوروبي، وفي جميع الحالات كان أداة فقط للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية. أو أداة للإنفاق على العجز أكثر من كونه أداة لتحفيز معدلات النمو وتحقيق حالة من الإزدهار.
ما هو الفرق بين برنامج التيسير الكمي وعمليات السوق المفتوحة؟
في الاقتصاد ترتبط العوامل والمؤشرات المختلفة في شكل منظومة واحدة، فأي تغير في أي من العوامل أو المؤشرات الاقتصادية ينعكس على باقي العوامل والمؤشرات الأخرى. لهذا السبب يقوم الاحتياطي الفيدرالي بمتابعة القدرة على التوظيف في سوق العمل، ودراسة نسب البطالة إلى جانب معدلات الأجور ويحاول إيجاد ربط بين هذه العوامل مع معدلات التضخم وأسعار الفائدة.
أما المهام الرئيسي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي فهي تحديد احتياطي البنوك ومعدل الأموال الفيدرالية وعمليات السوق المفتوحة.
عمليات السوق المفتوحة هي أداة للبنوك المركزية تشبه إلى حد كبير عملية التيسير الكمي، ويتم استخدامها في أوقات الركود لإنعاش الأسواق. هذه السياسة تسمح للإحتياطي الفيدرالي ببيع وشراء الأوراق المالية في السوق المفتوح من أجل التأثير على أسعارها وعوائدها.
في الأساس يعتمد البنك المركزي شراء وبيع السندات الحكومية، لكن قد يلجأ أحياناً الى شراء وبيع أوراق مالية أخرى، ومثال ما ذلك ما حدث في أزمة 2008 حين لجأ الإحتياطي الفيدرالي إلى استخدام الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية والتي كانت سبب رئيسي في تلك الأزمة.
شراء السندات الحكومية في الأسواق المفتوحة يرفع من سعرها ويقلل من عوائدها، وفي حال قرر البنك شراء السندات فإنه يهدف بذلك إلى تقليص ميزانيته وزيادة عرض الأموال في السوق، لكن في حال بيع تلك السندات يكون الهدف هو توسيع ميزانية الإحتياطي الفيدرالي وتقليل عرض الأموال في السوق.
تمشي هذه السياسة جنباً إلى جنب مع سياسة أسعار الفائدة، بمعنى في حال قرر الإحتياطي الفيدرالي زيادة عرض الأموال في السوق فإنه يقوم بتخفيض الفائدة وفي نفس الوقت يقوم بشراء سندات الخزينة ضمن عمليات السوق المفتوح والعكس.
في الأزمة المالية العالمية 2008 استخدم الإحتياطي الفيدرالي أدوات التيسير الكمي وعمليات السوق المفتوحة وأداة أسعار الفائدة من أجل إدارة الأزمة والتغلب على حالة الركود الاقتصادي. جميع هذه الأدوات عملت مع بعضها كمنظومة واحدة في مواجهة الأزمة والتقليل من حدتها.
في حالات الركود الشديد تستخدم بعض الدول سياسة الفائدة السالبة، تعرف عليها بالتفصيل.
تأثير التيسير الكمي على أسواق المال
يعتبر التيسير الكمي من القرارات الاقتصادية الكبيرة والمهمة، والتي تحمل دلالات واضحة بخصوص ضعف الاقتصاد. لهذا السبب عندما تعلن أي دولة عن بدء برامج للتيسير الكمي تنخفض قيمة عملتها بشكل واضح. على العكس تماما، عندما تعلن الدولة عن انهاء سياسة التيسير الكمي فإن ذلك يعتبر إشارة على أن الاقتصاد يحقق أرقام جيدة، وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة.
في عام 2018 أعلن ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي عن البدء في تقليص برنامج التَيسير الكمي شيئاً فشيئاً، وبدأ البنك بالفعل باتخاذ خطوات فعلية، هذه القرارات كانت كفيلة برفع قيمة اليورو إلى مستويات قياسية. في ذلك الوقت ارتفعت قيمة اليورو دولار EURUSD من مستويات 1.07 حتى مستويات 1.25، في المقابل ارتفع زوج اليورو ين EURJPY من مستويات 118 حتى مستويات 133.
لهذا السبب تعتبر القرارات بشأن التَيسير الكمي من القرارات المهمة التي يجب على متداول الفوركس متابعة كل ما يصدر بشأنها حتى يكون قادر على تحديد وجهة الأسواق واتخاذ قرار التداول الصحيح.
اقرأ أيضاً عن: اتفاقيات إعادة الشراء “الريبو”